الجمعة، ١٣ رجب ١٤٣١ هـ

المدرسة و التربية على حقوق الإنسان، ما الممكن عمله فيما بعد الخطابات ؟

آن موريلي
كانت الذكرى الخمسون للإعلان العالمي لحقوق الإنسان [*] مناسبة لمبادرات تربوية عديدة متنوعة بقدر ما هي أهل للتقدير: منشورات، دروس أخلاق، وتاريخ، و تعبئة منسقة أحيانا في مدرسة برمتها. أفكر في يوم نموذجي لكل "المحرومين" [ بلا أوراق، بلا عمل، بلا مستقبل...] قام بتنظيمه المعهد التقني و المهني في مدينة هيربوشين والذي سعدت، مع آخرين ُكثر، بالمشاركة فيه. يوم يشكل مثالا بفعل انخراط المدرسين و التلاميذ، وقد جرى تحسيسهم عبر أنشطة متنوعة [ إبداع مسرحية، مقهى مواطن...] بمظالم مجتمعنا. حاول المدرسون بهذه المناسبة أن يلقنوا لتلاميذ: أخلاقا، وتضامنا،و روحا نقدية.

في متم اليوم طالب أولئك التلاميذ بنموذج مجتمعي أكثر عدالة. عندها برزت حدود عملنا التربوي.

ماذا يسعنا أن نقترح عليهم؟ ماذا نجيبهم إذا تساءلوا: ما العمل الآن؟ و إذا اضطررنا إلى الاعتراف أنه "بعد 50 سنة يبدو جليا أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قلما يمثل أكثر من وعد في الهواء بالنسبة لأغلبية البشر، لا سيما بالنسبة لمليار و 300 مليون إنسان يعيشون بأقل من دولار في اليوم، وبالنسبة لخمسة وثلاثين ألف طفل يموتون كل يوم من سوء التغذية و من المرض، و بالنسبة لمئات ملايين البالغين الذي لا يعرفون القراءة و لا الكتابة، و الأربعين مليونا من اللاجئين، وآلاف سجناء الرأي و ضحايا التعذيب" هل يكفي أن ننصح التلاميذ ببعض أفعال الإحسان قد يستمدون منها راحة الضمير؟ أليس ضروريا ، بعد الإقرار بكل تلك المظالم، طرح سؤال أصل هذه الأمراض الاجتماعية؟ و إذا طرحنا هذا السؤال ألا نجازف فورا بطرح مسألة المسؤوليات الأساسية للنظام لاقتصادي و للساسة الذين يتعاونون مع السلطات الاقتصادية والذين يكتفون بتسيير خطوط السلوك المفروضة من القوى الاقتصادية دون وضعها موضع طعن؟ عندها يتردد الأستاذ في السير قدما على ساحة ملغومة بالسياسة، ساحة يمنع عليه وضعه الاعتباري كأستاذ أن يلجها. هل يجب مساعدة لتلاميذ على بلوغ وعي مظالم نظامنا والاعتراف لهم بعجزنا على النضال ضد الانتهاكات التي تطول حقوق الإنسان الأولية، لا سيما في المجال الاجتماعي والاقتصادي الذي يستتبع الحق في العمل و في الصحة و في الحماية الاجتماعية و في التعليم... ما جدوى الوعظ باحترام الحقوق فيما نظامنا يقتل، كل لحظة، أبرياء و لا يلبي حاجاتهم الأولية؟ هل من معنى في وعظ التلاميذ بقيم التضامن وفي الآن ذاته الإذعان لقانون يعتبر ذلك التضامن جرما؟ يا له من نفاق و يا له من التباس يحدو بنا إلى التشهير بالحمى ومحاولة تبريدها دون التعرض للجرثومة المسببة لها؟

أود هنا أن استشهد بمقطع طويل من كتاب المفكر الأمريكي نوعام تشومسكي، الذي صدر مؤخرا باللغة الفرنسية بعنوان مسؤولية المثقفين. في تقديم الكتاب يقترح ميخائيل البيرت المثل التالي:

إله [ربُُّ] مفترض أنهكه التعب من معاينة معاملة بعض البشر لبشر آخرين، فقرر أن تكف، ابتداء من 1 يناير 2000، أجسام كل الضحايا الأبرياء في " العالم الحر" عن التحلل. كل من يموت جوعا، أو بسبب استحالة الإفادة من العلاجات الطبية الأكثر أولية، وكل من يموت بالتعذيب أو بالاغتيال أو بالاغتصاب، الخ بإيجاز كل من يموت ضحية عنف آو ظلم سيقاوم جسده إلى الأبد التحلل الطبيعي. ولنتصور أن هذه الجثث، التي باتت غير قابلة للتعفن، ُتشحن بمنهجية في عربات شفافة مربوطة إلى قاطرة، والكل متنقل دون توقف عبر الولايات المتحدة الأمريكية. واحدة بعد أخرى، سُتلقى جثث على بعضها في العربات الشفافة, ألف جثة في كل عربة، 200 جثة كل دقيقة، و عربة جديدة كل 5 دقائق، ليل نهار، بلا توقف. كل تلك الأجسام معروضة أمام أنظار الجميع، عبر مسار "قطار الموت العنيف" هذا.

في 1 يناير 2001، في الذكرى الأولى للقافلة، سيبلغ طول "قطار الموت العنيف" 3200 كيلو متر، وسيستغرق - بسرعة متوسطة 30 كلم في الساعة- زهاء خمسة أيام لتصل مؤخرته إلى نقطة انطلاق مقدمته. وفي العام 2010 ، مع افتراض عدم حدوث أي انقلاب هائل في مؤسساتنا آو في سلوكنا يحد من العملية، سيغطي القطار سبعة أضعاف المسافة بين نيويورك و سان فرانسيسكو، وسيتعين انتظار 6 أسابيع بين لحظة مرور القاطرة أمام تمثال الحرية ولحظة رؤية ربنا المفترض( المتسائل دوما عن ما يلزم البشرية من وقت لتأويل رسالته) لآخر عربة . [...]

و الآن، تخيلوا قطار الموت العنيف هذا يعبر بلا نهاية من ساحل أمريكي إلى آخر. و لنتخيل ما يمكن أن تمثل تلك الجثث المكدسة لكل من أحبوا - أو أمكن أن يحبوا – أصحابها، أو مدوهم بالغذاء - أو أمكن أن يمدوهم بالغذاء- أو قاموا بتنشئتهم أو أمكن أن يقوموا بتنشئتهم.
لكن من يركب قطار الموت العنيف؟ إنهم سكان العالم الثالث الذين يقايضون أعضاءهم مقابل الغذاء، ويبيعون ُرضعهم لإنقاذ باقي أفراد الآسرة، ويتعرضون للمجاعة أو ينتظرون عودة مختطف. لقد عاشوا في البرازيل، وفي اندونيسيا، و في السلفادور، وفي نيويورك وباريس حتى. كل يوم يتكدسون في عربات القطار بعشرات الآلاف.

هل في الأمر مبالغة؟ عندما يموت 10 مليون طفل كل سنة بسبب غياب مساعدة طبية أولية بوسع الأمم الصناعية مع ذلك تزويدهم بها، ويجري ذلك في بلدان تنهبها بلا وازع شركات مثل بنك اوف امريكا و ايكسون، كيف يمكن عدم اعتبار الأمر عمليات قتل جماهيرية؟ الأطفال المجوعون، والمرضى، و المشوهون، كلهم ضحايا عملية قتل مثل الأجساد المخترقة بالرصاص الملقاة في الأنهار من طرف فيالق الموت. إن رفض مساعدة طبية للبلدان الفقيرة، و نهب مواردها الاقتصادية، لا يقل إجراما عن مد ممارسي التعذيب بأدواته أو عن إطلاق النار[...]

إذا شعرنا بأننا معنيون بهذه الحقيقة، يمكن وقتذاك أن نرى بسهولة قطار الموت العنيف، وما يغذيه يوما بعد يوم بمزيد من الجثث. كيف سنتصرف عندما نعي فعلا ذلك؟ بالاكتئاب، آو القلق، آو الكلبية، آو القدرية ، آو الأمل ، آو الفعل؟

حالما نبدأ النظر إلى ذك القطار وجها لوجه، ماذا سنفعل؟ شيء ما بداخلي يقول لي إن تلك الجرائم كبيرة ولا إنسانية لدرجة أن مقترفيها يستحقون الموت. قطار صغير جدا خاص بالمجرمين، وينتهي " قطار الموت العنيف". موت واحد لتفادي ملايين الموتى. لكن طبعا ليس على هذا النحو يسير العالم. ثمة أناس ُيصدرون الأوامر، وُيشهرون السلاح، و ُيراكمون لأنفسهم الأغذية، ويدفعون أجور بؤس، وحتى يقودون ذلك القطار الشيطاني، لكن المؤسسات هي التي تخلق القالب [التشديد مني] الذي ُيصنع فيه أولئك الأشخاص. أي طبيب جراح سيجرؤ على استعمال الوسائل الناجعة فيما السرطان المؤسساتي ينخر البشرية برمتها؟

إن وعي مسؤولية بلدنا إزاء تلك الجثث المكدسة في العربات الشفافة يكشف درجة تافهة ردود الفعل من قبيل كتابة مقالات حول الموضوع، وتوزيع مناشير، و القيام ببحث، والتظاهر، وأعمال العصيان المدني، وخلق مؤسسة معارضة، وحتى المشاركة في إضراب على نطاق طني. لكن الواقع أن مثل هذه الأفعال هي بالضبط ما ينتظر منا ربنا الافتراضي إذا قرر أن يجول فعلا بجثث "العالم الحر" في شوارعنا. إنها أفعال تنضاف بعضا إلى بعض، وبوسعها أن ترفع أكثر كلفة امتيازات السلطة والسيطرة إلى حد جعلها تبدأ في الترنح.

وكما ُيقال:" نخسر، ونحسر ، ونخسر، و في النهاية نربح". إن كل فشل هو مرحلة في سيرورة تفضي إلى تغييرات حقيقية في المؤسسات.
من هذا المثال، يمكن أن نطرح في القسم مع التلاميذ سؤال الرد الممكن على البنيات والأشخاص الذين ينتهكون عن وعي كل يوم حقوق الإنسان الأكثر أولية.

إن إعلانات حقوق الإنسان وثائق ثورية يجب علينا أن نتملكها.

إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1793 [ المسمى «جبليا" والصادر يوم 24 يونيو 1793] يقول صراحة في مادته 35 : عندما تنتهك حكومة ما حقوق الشعب، فالانتفاضة بالنسبة للشعب وبالنسبة لكل قسم من الشعب، هي أقدس الحقوق و واجب لا غنى عنه.
و الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 يعترف هو أيضا في مقدمته باللجوء إلى التمرد ضد الطغيان.

الطغيان اليوم يرتكبه البنك العالمي و صندوق النقد الدولي وموظفو منظمة التعاون والتنمية الاقتصاديين.

إن موظفين من قبيل كريستيان موريسون، موظف منظمة التعاون و التنمية الاقتصاديين، يغدقون على مختلف الحكومات نصائحهم للاقتطاع من الحقوق الاجتماعية و الاقتصادية بتفادي ردود الفعل الجماعية للسكان وبإضعاف الحركات الاجتماعية.

يجب أن تُثار، في القسم مع التلاميذ، لا أخلاقية بعض القوانين، ومن ثمة، لا شرعية بعض الممارسات الأخلاقية. ولا بد من النقاش اليومي في حدود القابل للتحمل، وفي حدود التعاون. و يجب إثارة اهتمام الشباب بالشأن العام و حثهم على الالتزام. لكن كيف العمل وزملاء محبطين ُكثر يدعون بالعكس إلى اللامبالاة وإلى الفردانية، وإلى عدم الالتزام؟

إن " الرسالات" المسندة للمدرسة هي بهذا المعنى متناقضة. فمن جهة ُيطلب من المدرس عمليا أن يدمج التلاميذ في "منطق فعالية، ومردودية، و انتاجية، و تنافسية، ومرونة، و قابلية تشغيل...". يجب عليه إذن أن " يعد تلاميذه ليكونوا ذوي مردودية، فعالين، وذوي إنتاجية، وتنافسيين، وعدم تضييع أي وقت للقيام بذلك لأن ألآخرين يقوم بالأمر عينه وقد يتفوقوا عليه فيه. إن منطق المردودية الذي يحكم نظامنا يتطلب ذلك.

لكن إلى جانب هذا يتعين على المدرس أن يحرر طاقات الطفل، و يقوم بتكوين مواطنين، ويربي" تلاميذه على قيم التضامن، والعدالة، والأخوة، و بالتالي أن يعلمهم التنديد بالتنافس والمزاحمة، وان يحثهم على أن يتنظموا جماعيا ضد النزعة الاقتصادية".
نرى إلى أي حدد تتناقض هذه الرسالات ولا تتطابق. إن ُمثل السخاء والأخوة لا تقبل بنظري توفيقا مع منطق المردودية و النزعة الاقتصادية. اعتقد انه يجب الاختيار، إذ لا يمكن أن يخدم المرء سيدين.

يجب ألا يحاول البالغون خنق عنف الشباب. يجب أن يعملوا لتقنيته. إن الأساسي بنظري هو أن نوحي إلى الشباب بالنضال لأن ذلك يعني أيضا إعطاء معنى لوجودهم الذي يعتبره الكثيرون منهم عبثيا فقط. ليس ثمة أمر حتمي، كل شيء يستدعي البناء، وكل شيء قد يكون موضوع معركة.

========
[*] نُشر هذا النص سنة 1998 ، و صدر من كتاب بؤس المدرسة- الكتاب الأسود لجمعية النداء من اجل مدرسة ديمقراطية حول خفض تمويل التعليم
Misère de l’école, livre noir de l’Aped sur le (dé)financement de l’enseignement, 1999

ليست هناك تعليقات: